الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد **
القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء، كما قيل: فتبقى المحبة له طبعاً لا تكلفاً، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعث قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله وقوي طمعه وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره. وكلما قوي الرجاء جد في العمل كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل غلق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصر في البذر. وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة (1) وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع، انبعث منها قوة الامتثال والتنفيذ للطلب والاجتناب للنهي. وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعث من العبد قوة الحياء فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى. وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم، انبعث من البعد قوة التوكل عليه والتفويض إليه والرضا به وبكل ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه. والتوكل معنى يلتئم من علم البعد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته به ورضاه بما يفعله به ويختاره له. وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته والانكسار لعزته والخضوع لكبريائه وخشوع القلب والجوارح له فتعلو السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدته. وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى البعد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه. ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار إليه والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له. وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاؤه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيوميته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه. ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحمله في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه. وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته على عرشه يدبر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثبت ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكل كمال، منزه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلى بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع. لما بايع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل العقبة أمر الصحابة بالهجرة إلى المدينة، فعلمت قريش أن أصحابه قد كثروا وأنهم سيمنعونه، فأعملت الآراء في استخراج الحيل، فمنهم من رأى الحبس، ومنهم من رأى النفي. ثم اجتمع رأيهم على القتل، فجاء البريد بالخبر من السماء وأمره أن يفارق المضجع، فبات على مكانه ونهض الصِّدِّيق لرفقة السفر. فلما فارقا بيوت مكة اشتد الحذر بالصديق فجعل يذكر الرصد فيسير أمامه، وتارة يذكر الطلب فيتأخر وراءه (2) فلما وقف القوم على رؤوسهم وصار كلامهم بسمع الرسول والصديق، قال الصديق وقد اشتد به القلق: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأقاما في الغار ثلاثاً ثم خرجا منه ولسان القدر يقول: لتدخلنها دخولاً لم يدخله أحد قبلك ولا ينبغي لأحد من بعدك. فلما استقلا على البيداء لحقهما سراقة بن مالك، فلما شارف الظفر أرسل عليه الرسول سهما من سهام الدعاء، فساخت قوائم فرسه في الأرض إلى بطنها، فلما علما أنه لا سبيل له عليهما أخذ يعرض المال على من قد رد مفاتيح الكنوز ويقدم الزاد إلى شبعان، أسلم على يديه من العشرة: عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. وكان عنده يوم أسلم أربعون ألف درهم فأنفقهما أحوج ما كان الإسلام إليها، فلهذا جلبت نفقته عليه "ما نفعني مال، ما نفعني مال أبي بكر". فهو خير من مؤمن آل فرعون؛ لأن ذلك كان يكتم إيمانه والصديق أعلن به. وخير من مؤمن آل ياسين؛ لأن ذلك جاهد ساعة والصديق جاهد سنين. عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار ويصيح: نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله على الصغار، أترى لم يسمع الروافض الكفار: تالله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ. فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ. حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟. كم وقى الرسول بالمال والنفس، وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس(7) يا عجبا! من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحادث. فقال الرسول: ما ظنك باثنين والله الثالث. فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث، فزال القلق وطاب عيش الماكث، فقام مؤذن النصر ينادي على رءوس منائر الأمصار حبه والله رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية. فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية. لولا صحة إمامته ما قيل ابن الحنفية. مهلا مهلا، فإن دم الروافض قد فار. والله ما أحببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: "رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا". تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر(8) اجتنب من يعادي أهل الكتاب والسنة لئلا يعديك خسرانه. احترز من عدوين هلك بهما أكثر الخلق: صادّ عن سبيل الله بشبهاته وزخرف قوله، ومفتون بدنياه ورئاسته. من خلق فيه قوة واستعداد لشيء كانت لذته في استعمال تلك القوة فيه، فلذة من خلقت فيه قوة واستعداد للجماع استعمال قوته فيه، ولذة من خلقت فيه قوة الغضب والتوثب استعمال قوته الغضبية في متعلقها، ومن خلقت فيه قوة الأكل والشرب فلذته باستعمال قوته فيهما. ومن خلقت فيه قوة العلم والمعرفة فلذته باستعمال قوته وصرفها إلى العلم. ومن خلقت فيه قوة الحب لله والإنابة إليه والعكوف بالقلب عليه والشوق إليه والأنس به فلذته ونعيمه استعمال هذه القوة في ذلك . وسائر اللذات دون هذه اللذة مضمحلة فانية وأحمد عاقبتها أن يكون لا له ولا عليه. يا أيها الأعزل احذر فراسة المتقي، فإنه يرى عورة عملك من وراء ستر سبحان الله، في النفس: كِبر إبليس وحسد قابيل وعتو عاد وطغيان ثمود وجرأة نمرود واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة(12) سلم المبيع قبل أن يتلف في يدك فلا يقبله المشتري، قد علم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها، فسلمها ولك الأمان من الرد. قدر السلعة يعرف بقدر مشتريها والثمن المبذول فيها والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيماً والثمن خطيراً والمنادي حائلا كانت السلعة نفيسة. وبائعاً طيب عيش ما له خطر ** بطيف عيش من الآمال منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا ولدى ** يوم التغابن تلقى غاية الحرب
وواردا صفو عيش كله كدر ** أمامك الورد حقا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا ** لكل داهية تدني من العطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض ** فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنيا نفسه في أثر أقبحهم ** وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهبا نفسه من مثل ذا سفها ** لو كنت تعرف قدر النفس لم تهب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب ** وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها ** والفيء في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد جد وانقشعت ** عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت ** ورسل ربك قد وافتك في الطلب
ما في الديار وقد سارت ركائب من ** تهواه للصب من شكر ولا أرب
فافرش الخد ذياك التراب وقل ** ما قاله صاحب الأشواق والحقب
منازلا كان يهواها ويألفها ** أيام كان منال الوصل عن كثب
ولا الخدود ولو أدمين من ضرج وكلما جليت تلك الربوع له ** يهوى إليها هوى الماء في الصبب
أحيي له الشوق تذكار العهود بها ** فلو دعي القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منزل في الأرض يألفه ** وما له من سواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك إن ** بثثته بعض شأن الحب فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتدياً ** بنفحة الطيب لا بالعود والحطب
وعاد أخي جبن ومعجزة ** وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نوراً تستضيء به ** يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
إن كان يوجب صبري رحمتي فرضا ** بسوء حالي وحل الضنا بدني
منحتك الروح لا أبغي لها ثمنا ** إلا رضاك ووافقري إلى الثمن
أحن بأطراف النهار صبابة ** وبالليل يدعوني الهوى فأجيب
وإذا لم يكن من العشق بد ** فمن العجز عشق غير الجميل
فلو أن ما أسعى لعيش معجل ** كفاني منه بعض ما أنا فيه
ولكنما أسعى لملك مخلد ** فوا أسفا إن لم أكن بملاقيه
يا من هو من أرباب الخيرة، هل عرفت قيمة نفسك؟ إنما خلقت الأكوان كلها لك. يا من غذي بلبان البر وقلب بأيدي الألطاف، كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة، وصورة وأنت المعنى، وصدف وأنت الدر، ومخيض(18) منشور اختيارنا لك واضح الخط، ولكن استخراجك ضعيف. متى رمت طلبي فاطلبني عندك، اطلبني منك تجدني قريباً ولا تطلبني من غيرك فأنا أقرب إليك منه لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي، إنما أبعدنا إبليس إذ لم يسجد لك، وأنت في صلب أبيك، فواعجبا كيف صالحته وتركتنا! لو كان في قلبك محبة لبان أثرها على جسدك. لو تغذى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات. لو صحت محبتك لاستوحشت ممن لا يذكرك بالحبيب. واعجبا لمن يدعى المحبة ويحتاج إلى من يذكره بمحبوبة، فلا يذكره إلا بمذكر. أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكر المحبوب. إذا سافر المحبوب للقاء محبوبة ركبت جنوده معه، فكان الحب في مقدمة العسكر، والرجاء يحدو بالمطي والشوق يسوقها والخوف يجمعها على الطريق، فإذا شارف قدوم بلد الوصل خرجت تقادم الحبيب باللقاء. ولا تكلني على بعد الديار إلى ** صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه
تلق قلبي فقد أرسلته عجلا ** إلى لقائك والأشواق تقدمه فإذا دخل على الحبيب أفيضت عليه الخلع(19) ملئوا مراكب القلوب متاعا لا تنفق إلا على الملك، فلما هبت رياح السحر أقلعت تلك المراكب، فما طلع الفجر إلا وهي بالميناء. قطعوا بادية الهوى بأقدام الجد، فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر فأعقبهم الراحة في طريق التلقي، فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الأبد. فرغ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة، فأقاموا العيون تحرس تارة وترش أخرى. سرادق المحبة لا يضرب إلا في قاع نزه فارغ. الصبر طلسم لكنز وصالنا ** من حل ذا الطلسم فاز بكنزه
اعرف قدر ما ضاع وابك بكاء من يدري مقدار الفائت. لو تخيلت قرب الأحباب لأقمت المأتم على بعدك. لو استنشقت ريح الأسحار لأفاق منك قلبك المخمور. من استطال الطريق ضعف مشيه: أما علمت أن الصادق إذا هم ألقى بين عينيه عزمه. إذا نزل آب في القلب حل آذار في العين(25) هان سهر الحراس لما علموا أن أصواتهم بسمع الملك. من لاح له حال الآخرة هان عليه فراق الدنيا. إذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف. يا أقدام الصبر أجملي بقي القليل. تذكر حلاوة الوصال يهن عليك مر المجاهدة. قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر. أعلى الهمم همة من استعد صاحبها للقاء الحبيب. وقدم التقادم بين يدي الملتقى فاستبشر بالرضا عند القدوم، الجنة ترضى منك بأداء الفرائض، والنار تندفع عنك بترك المعاصي، والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل الروح. لله ما أحلى زمانا تسعى فيه أقدام الطاعة على أرض الاشتياق. لما سلم القوم النفوس إلى رائض الشرع علمها الوفاق في خلاف الطبع فاستقامت مع الطاعة كيف دارت دارت معها. أخالف بين الراحتين على الحشا ** وأنظر أني ملثم فأميل
علمت كلبك فهو يترك شهوته في تناول ما صاده احتراما لنعمتك وخوفا من سطوتك. وكم علمك معلم الشرع وأنت لا تقبل. حرم صيد الجاهل والممسك لنفسه، فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوى نفسه. جمع فيك عقل الملك وشهوة البهيمة وهوى الشيطان وأنت للغالب عليك من الثلاثة: إن غلبت شهوتك وهواك زدت على مرتبة ملك، وإن غلبك هواك وشهوتك نقصت عن مرتبة كلب. لما صاد الكلب لربه (26) مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة المعطي المانع. فهو سبحانه يصرف عباده بين مقتضى هذين الاسمين، فحظ العبد الصادق من عبوديته بهما الشكر عند العطاء، والافتقار عند المنع، فهو سبحانه يعطيه ليشكره، ويمنعه ليفتقر إليه، فلا يزال شكورا فقيرا. قوله تعالى: ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك. وقال ليث عن مجاهد قال: يظاهر الشيطان على معصية الله يعينه عليها. وقال زيد بن أسلم: "ظهيرا" أي مواليا. والمعنى: أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به، فيكون مع عدوه معينا له على مساخط ربه. فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه، ولهذا صدر الآية بقوله: قوله تعالى: قلت: ههنا أمران: ذكر الخرور وتسليط النفي عليه، وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود؟ وهل المعنى: لم يكن خرورهم عن صمم وعمه فلهم عليها خرور بالقلب خضوعا أو بالبدن سجودا، أو ليس هناك خرور وعبر به عن القعود. أصول المعاصي كلها، كبارها وصغارها، ثلاثة: تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك والظلم والفواحش، فغاية التعلق بغير الله شرك وأن يدعى معه إله آخر. وغاية طاعة القوة الغضبية القتل. وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا. ولهذا جمع الله سبحانه وتعالى بين الثلاثة في قوله: وقد جمع سبحانه بين الزنا والشرك في قوله: فهذه الثلاثة يجر بعضها إلى بعض ويأمر بعضها ببعض. ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيداً وأعظم شركاً كان أكثر فاحشة وأعظم تعلقاً بالصور وعشقاً لها. ونظير هذا قوله تعالى فهذا مخالفة القوة الغضبية، فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التي هي جماع الخير كله. هجر القرآن أنواع، أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: وكذلك الحرج الذي في الصدور منه، فإنه تارة يكون حرجا من إنزاله وكونه حقا من عند الله. وتارة يكون من جهة التكلم به أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته ألهم غيره إن تكلم به، وتارة يكون من جهة كفايته وعدمها وأنه لا يكفي العباد، بل هم محتاجون معه إلى المعقولات والأقيسة أو الآراء أو السياسات. وتارة يكون من جهة دلالته وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب، أو أريد به تأويلها وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة مشتركة. وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وإن كانت مرادة، فهي ثابتة في نفس الأمر أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة. فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن، وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم. ولا تجد مبتدعا في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته كما أنك لا تجد ظالما فاجرا إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته. فتدبر هذا المعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء. كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين: أحدهما: أن يصير هيئة راسخة وصفة لازمة لها. الثاني: أن يكون صفة كمال في نفسه. فإذا لم يكن كذلك لم يكن كمالا، فلا يليق بمن يسعى في كمال نفسه المنافسة عليه ولا الأسف على فوته، وذلك ليس إلا معرفة بارئها وفاطرها ومعبودها وإلهها الحق الذي لا صلاح لها ولا نعيم ولا لذة إلا بمعرفته وإرادة وجهه وسلوك الطريق الموصلة إليه وإلى رضاه وكرامته. وأن تعتاد ذلك فيصير لها هيئة راسخة لازمة. وما عدا ذلك من العلوم والإرادات والأعمال فهي بين ما لا ينفعها ولا يكملها وما يعود بضررها ونقصها وألمها، ولا سيما إذا صار هيئة راسخة لها، فإنها تعذب وتتألم به بحسب لزومه لها. وأما الفضائل المنفصلة عنها كالملابس والمراكب والمساكن والجاه والمال فتلك في الحقيقة عوار (28) فليتدبر من يريد سعادة نفسه ولذتها هذه النكتة، فأكثر هذا الخلق إنما يسعون في حرمان نفوسهم وألمها وحسرتها ونقصها من حيث يظنون أنهم يريدون سعادتها ونعيمها. فلذتها بحسب ما حصل لها من تلك المعرفة والمحبة والسلوك. وألمها وحسرتها بحسب ما فاتها من ذلك. ومتى عدم ذلك وخلا منه لم يبق فيه إلا القوى البدنية النفسانية التي بها يأكل ويشرب وينكح ويغضب وينال سائر لذاته ومرافق حياته. ولا يلحقه من جهتها شرف ولا فضيلة، بل خساسة ومنقصة؛ إذ كان إنما يناسب بتلك القوى البهائم ويتصل بجنسها ويدخل في جملتها ويصير كأحدها. وربما زادت في تناولها عليه واختصت دونه بسلامة عاقبتها والأمن من جلب الضرر عليها. فكمالٌ تشاركك فيه البهائم وتزيد عليك وتختص عنك فيه بسلامة العاقبة حقيق أن تهجره إلى الكمال الحقيقي الذي لا كمال سواه، وبالله التوفيق. إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى: قال سفيان بن عيينة(29) العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس. والعمل: نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج. فإن كان الثابت في النفس مطابقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح. وكثيرا ما يثبت ويتراءى في النفس صور ليس لها وجود حقيقي، فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علما، وإنما هي مقدرة لا حقيقة لها. وأكثر علوم الناس من هذا الباب. وما كان منها مطابقا للحقيقية في الخارج فهو نوعان: نوع تكمل النفس بإداركه والعلم به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع. وهذا حال أكثر العلوم الصحيحة المطابقة التي لا يضر الجهل بها شيئاً، كالعلم بالفلك ودقائقه ودرجاته، وعدد الكواكب ومقاديرها. والعلم بعدد الجبال وألوانها ومساحاتها ونحو ذلك. فشرف العلم بحسب شرف معلومه وشدة الحاجة إليه. وليس ذلك إلا العلم بالله وتوابع ذلك. وأما العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وذلك يكون من فساد العلم تارة ومن فساد الإرادة تارة. ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله وليس كذلك، أو يعتقد أنه يقربه إلى الله وإن لم يكن مشروعا، فيظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل، وإن لم يعلم إنه مشروع. وأما فساده من جهة القصد فألا يقصد به وجه الله والدار الآخرة، بل يقصد به الدنيا والخلق. وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل إلى السلامة منهما إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة. فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمه وعلمه. والإيمان واليقين يورثان صحة المعرفة وصحة الإرادة، وهما يورثان الإيمان ويمدانه. ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة، ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة ، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق ، فيكون علمه مقتبسا من مشكاة النبوة ، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق ، فيكون علمه مقتبسا من مشكاة الوحي ، وإرادته لله والدار الآخرة ، فهذا أصح الناس علما وعملا وهو من الأئمة الذين يهدون بأمر الله ومن خلفاء رسوله في أمته. الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته. فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك. فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته. فالإيمان قلب الإسلام ولبه. واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول.
|